الأم… سرّ الدفء الأول.
بقلم – ناصر مضحي الحربي
لا يحتاج الإنسان كثيراً من التأمل ليكتشف أن الأم ليست مجرد حضور عابر في حياته، بل هي الجذر الأول لكل ما ينمو داخله من طمأنينة ورضا وقوة.
فالأم، في معناها العميق، هي الكائن الذي يختزل معنى الحماية قبل أن يتعلم الطفل لفظها، وهي اليد التي تسبق السقوط لتحتضن، والقلب الذي لا يشيخ مهما أثقلته الأيام.
نصف العالم يردد بأن الأم «قلب البيت»، لكن الحقيقة أنها القلب الذي تستمد منه الحياة نبضها.
فما من إنسان مرّ في طفولته بمرضٍ أو قلقٍ إلا وتذكر تلك العين الساهرة فوقه، وتلك اليد التي ترتّب الغطاء لئلّا يمسّه البرد، وكأنها تقول دون كلام: لن يمسّك سوء ما دمتُ هنا.
كلنا – دون استثناء – خبرنا هذا الدفء الذي لا يتكرر، دفء يسكن الذاكرة أكثر مما يسكن الجسد.
وقد يتساءل المرء: ما سرّ هذه القدرة الغريبة لدى الأم على منح الطمأنينة؟ السر ليس في العطف وحده، ولا في تضحية تُروى في الأمثال فقط، بل في ذلك الإحساس الغريزي بأن أبناءها امتدادٌ من روحها.
هي لا تبذل جهداً لتكون عطوفة؛ هي كذلك لأن تكوينها نفسه صُنع من خليطٍ نادر من الحنان والصبر.
وليس غريباً أن يُدرك الإنسان، كلما تقدّم في العمر، أن ما قدّمه لأمّه من مشاعر لا يبلغ واحداً من آلاف ما قدمته له. تتعب حين نرتاح، وتبقى يقظة حين ننام، وتختبئ وراء ابتسامة واسعة كي لا نرى تعبها.
السنين لا تجعلها أقل حباً، بل تُوسّع في داخلها مساحة العطاء حتى تبدو كأنها معجزة صغيرة تمشي على الأرض.
ومع ذلك، فإن أجمل ما تملكه الأم ليس عطاءها المادي، بل تلك القدرة على جعل الحياة أكثر احتمالاً.
كلمة خفيفة منها تقوّم انكساراً حاداً، ونظرة رقيقة تسند روحاً تائهة، ودعوة صادقة قد تغيّر مصير يومٍ بأكمله. وكأن في حضورها بركة لا يفسرها المنطق، لكنها تُلهم القلب أن يطمئن، وتقول للعالم: ثمة مكان آمن مهما اشتدّت العاصفة.
إنّ الحديث عن الأم ليس مدحاً ولا مديحاً جاهزاً، بل هو اعترافٌ بفضل يصعب إحصاؤه، وبنعمة يستحيل أن يجيد القلب شكرها.
وكل ما يستطيع المرء فعله هو أن يرفع أكفّ الدعاء بأن يحفظ الله تلك التي كانت وما زالت أول يدٍ امتدت إليه، وأول قلبٍ عرفه، وأصدق حبٍّ أحاطه.
الأم… ليست مجرد شخص، بل معنى كامل للحياة حين تصبح أكثر دفئاً، وأكثر وضوحاً، وأكثر قدرة على الاستمرار.
هي الذاكرة الأولى، والحضن الأول، والملاذ الذي لا يخون.
ومن يدرك مكانتها حقّ الإدراك، يفهم أن أجمل ما في الوجود يبدأ من كلمة: أم

