وهج المشاعر

هموم تُساق حروفًا: جمالية الوجدان في شعر رجاء بن سحاب.

 

وقع الحدث/ ناصرمضحي الحربي

قراءة في قصيدة

ُيعدّ الشاعر  – رجاء بن سحاب السعدوني –  واحدًا من الأصوات الشعرية البارزة في ساحة الشعر النبطي المعاصر، إذ يمتلك لغة متينة تستمد جمالها من صفاء البادية وعمق التجربة الإنسانية. يتميز شعره بالصدق العاطفي والقدرة على التقاط التفاصيل الدقيقة التي تمسّ القلب قبل الأذن، فيصوغها في أبيات تتقاطع فيها الحكمة مع الوجدان، والعتب مع صفاء الروح.

يكتب السعدوني من وحي التجربة لا التكلّف؛ فشعره مرآة لما عاشه وشهده من تحولات في العلاقات، ومواقف الحياة، وتقلّبات الزمان. ولذلك تأتي قصائده محمّلة بنبرة تأملية وعمق شعوري، تجعل المتلقي يشعر بأن كل بيت مكتوب بمداد الألم والصدق والوفاء. كما يملك قدرة لافتة على تطويع الصورة الشعرية الشعبية بأسلوب عذب يجمع بين سلاسة التعبير وقوة المعنى، ليؤكد مكانته كشاعر يمتلك حسّه الخاص ونبرته التي تميّزه عن غيره.
نستعرض معكم إحدى قصائد الشاعر رجاء، ونرافقكم في قراءة تحليلية تستكشف جماليات هذا النص المترف وروحه الفنية الرفيعة التي  تعبّر عن وجدانٍ مثقلٍ بالتجارب، وحنينٍ إلى صفاء العلاقات، وتكشف صراع الإنسان بين الوفاء والخذلان، وبين أصالة النفس وتقلبات الزمن.
يبدأ الشاعر  رجاء السعدوني بدعاء يفيض توقًا للنجاة من المنغصات:
**عسا اللّٰه يجنبنا سنين الشقا والكرب
ولا نلتفت يم ابعد الناس وقربها**
يتمنى أن يقيه الله سنوات الشقاء والهموم، وألا يلتفت إلى الناس القريب منهم والبعيد؛ فالعلاقات أصبحت مرهقة، وبعضها لا يعود على النفس إلا بالتعب.
“أمور تضايقنا ماهي بأكل ولا شرب”
يعاني الشاعر من هموم ليست بسبب فقر أو حاجة، بل هموم وجدانية مصدرها جفاء الناس:
لا والله جفاً هز النفوس وتلببها
هنا يشير إلى جفاء هزّ النفوس وتغلغل فيها حتى أثقلها.
“نشيل الجمايل والجمايل بعضها جرب”
يحمل الشاعر المعروف ويصنع الجميل، لكنه يكتشف أن بعض الجميل مثل الجرَب—ينفر منه الناس أو يُساء فهمه.
مشاريه بعض الناس ما اللّٰه بموجبها
وبعض الناس معاملتهم غير منصفة، ولا تتوافق مع قيم الوفاء.
“انجامل على شان الوفا لو يطول الدرب”
يمضي الشاعر في طريق المجاملة لا لضعف، ولكن حفاظًا على الوفاء، مع أنه يعرف الصاحي من المجرّب؛ أي يعرف أصحاب النفوس النقية من غيرهم.
“جديد الهجوس عسوس لاجت همومي سرب”
خواطره جديدة ومؤلمة، تأتيه عندما تهاجمه الهموم. وهنا تبدأ اللحظة الشعرية.
“واسوق الضروف حروف وصور اغربها”
يحيل ظروفه القاسية إلى شعر وصور غرائبية، وكأن الشعر هو متنفسه الوحيد.
**“اغني معاناتي شعر من بقايا حرب
ضروس علينا ما عرفنا سبايبها”**
يشبّه معاناته بـ بقايا حرب شرسة لا يعرف سببها؛ وهذا تصوير قوي يدل على قوة الألم وشدة الابتلاء.
“يقولون خلك ذرب واقول وين الذرب”
الناس تطالبه بأن يكون كريم الأخلاق، لكنه يتساءل:
أين الذرب الحقيقي في زمنٍ حتى الطيب يُذرب؟
“والا الذرب حتى نفوس غيره يذربها”
بل قد يصل “طيب النفس” إلى حدّ أنه يؤذي صاحبه لأنه يفتح الباب للآخرين باستغلاله.
**“ويقولون خلك حر عشقه ثنادي خرب
وانا اقول كم خرب مع الحر خربها”**
ينصحونه أن يكون “حرًا” في عاطفته، لكنه يرى أن الحرية العاطفية غير المنضبطة قد تُفسد العلاقات، كما أفسدت الكثيرين.
**“ما ندري لو أن الشمس بكره تجي من غرب
علاماتها بانت عسا اللّٰه يجنبها”**
يختم بنبرة تشاؤم وقلق من تغيّر الدنيا، حتى كأن الشمس قد تشرق من الغرب!
ويدعو الله أن يجنب الناس علامات تلك الأيام وتقلباتها.
المحسّنات البديعية والصور الجمالية
أولاً: الصور البيانية (التشبيه والاستعارة)
1.“جفاً هز النفوس وتلببها”
استعارة تصوّر الجفاء شيئًا ماديًا يهز النفوس ويدخل أعماقها.
2.“الجمايل بعضها جرب”
تشبيه بليغ يصوّر بعض المعروف بأنه جرب مؤذٍ، في دلالة على عدم تقديره.
3.“همومي سرب”
استعارة شبّه فيها الهموم بسرب الطيور الذي يهجم دفعة واحدة.
4.“واسوق الظروف حروف”
يجسّد الظروف كأنها شيء يُساق ويُقاد، استعارة قوية.
5.“شعر من بقايا حرب ضروس”
تشبيه المعاناة بحرب شرسة، يعكس قوة الألم.
6.“الشمس تجي من غرب”
صورة تستحضر انقلاب المألوف، دلالة على اضطراب الأحوال.
ثانيًا: المحسنات البديعية
1.الجناس:
•الشقا / الشرب
الناس / نفوس (تقارب صوتي)
ذرب / يذربها
خرب / خربها
2.الطباق:
أبعد / قرب
أكل / شرب
صاحي / جرب (بمعنى مختبر)
3.التكرار الفني:
تكرار كلمة “الجمايل” للتأكيد.
تكرار “يقولون… وأقول” لإظهار الصراع بينه وبين المجتمع.
4.السجع:
يظهر في نهايات الأبيات بجرس موسيقي جميل (الكرب، شرب، تلببها… إلخ).
ثالثًا: السمات الفنية
لغة شعرية مباشرة، لكنها عميقة.
حضور الحكمة والتجربة الحياتية.
سيادة نبرة الوجع والعتب.
قوة الصورة الشعبية المألوفة في الشعر النبطي.
انتقال مدروس بين الشكوى والنصح والتأمل.
ختاماً
القصيدة تعكس وجدان شاعر ذاق مرارة العلاقات وتقلب الزمان، ويمزج فيها بين الحكمة والعتب، وبين الصمود والألم. لغة القصيدة جاءت جزلة، وصورها مؤثرة، وموسيقاها منسابة تجمع بين الأصالة والعاطفة الصادقة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى