زياد الرحباني… الموسيقار الذي كتب لبنان وغاب | تقرير خاص
رحيل زياد الرحباني... لبنان يودّع موسيقار الكلمة والموقف
نادر الشرفي – وقع الحدث:
فاجأ خبر وفاة زياد الرحباني، صباح اليوم السبت، اللبنانيين والعرب، بعدما أسدل الستار عن عمر 69 عامًا، تاركًا خلفه ميراثًا فنيًا من الأغاني والمسرحيات والمواقف، شكلت على مدى نصف قرن مرآةً لوجع الناس في لبنان والعالم العربي.
أعلنت وسائل إعلام لبنانية وفاة الرحباني بعد صراع طويل مع المرض، فيما نعت مؤسسات الدولة والمثقفين وفنانين غيابه، في وداع يليق برجل يمثِّل ذاكرة حية لمرحلة كاملة، كان فيها الصوت، والصدى، والاعتراض الذي لا يهدأ.
قال وزير الثقافة اللبناني إن زياد كان يعرف مصيره، وكان يخاف العلاج أكثر من المرض، فآثر العزلة والصمت، واكتفى بالمراقبة من بعيد، كأن موته قرار فني أخير، كتبه هو وحده، ببرودة موسيقية لم تعتدها الناس من رجل يُشبه الانفجار.
رحل صاحب الجملة الساخرة، واللحن الصادم، والعين التي ترى ما لا يُقال، بعدما أنهكه مرض الكبد، وأعياه انتظار العافية، لينطفئ كما يليق بالكبار، بهدوء، بلا إعلان، وبلا مسرحية أخيرة، وكأن الحياة كانت المشهد الأطول والأكثر جدارة بالتصفيق.
– من فيروز إلى سهرية… ولادة فنان لا يُشبه أحدًا
دخل زياد الرحباني الفن من بابه العريض. امتنع أن يكون ولوجه للفن من خلال عبوره سجاد العائلة الأحمر؛ فصنع ممرًّا خاصًا به، يمرّ من الحارة، ومن المقهى، ومن الطاولة الخشبية في البيوت الصغيرة، حيث تنضج الأفكار والمواقف وتصير كلمات تُغنَّى.
كتب أولى كلماته لفيروز وهو ابن ستة عشر عامًا، ثم فجّر أولى صرخاته عبر مسرحية “سهرية”، ليقول للناس ما لم يقله أحد، بصوت غاضب يشبه بيروت تحت القصف، وبضحكة مُرَّة تصفع الطمأنينة الزائفة في وجه الجمهور.
ابتكر في موسيقاه مزيجًا من الجاز والشرقي والكلاسيكي، فخرج بلون خاص كأنه امتداد لعاصي الرحباني وغضب بيرم التونسي، كتب موسيقى تشبه الشتائم، وألحانًا تهدّجت فيها نبرة الثورة، وصنع أغنيات تتسلل إلى الشارع كما يتسلل الحنين من نوافذ التعب.
لحّن لوالدته أغاني خالدة مثل “كيفك إنت” و”بلا ولا شي”، لكن قلبه ظل يسكن المسرح، حيث الكلمات أكثر وضوحًا، والرسائل أكثر شراسة، وهناك بالضبط، وجّه ضرباته للجميع، حاكمًا أو زعيمًا أو حزبًا، بلا خوف، وبلا لحظة مجاملة واحدة.
– فن ساخر… ومعركة مفتوحة مع السلطة والطائفية
صعد زياد الرحباني على الخشبة ليمثل الشعب ومعاناته، فتكلّم بلسان المهمشين، وأعاد تشكيل المسرح ليكون ساحة مواجهة سياسية واجتماعية، واستثمر السخرية لتكون رصاصًا ناعمًا يُصيب مباشرة في رأس المسؤولين.
قدّم أعمالًا مثل “نزل السرور”، “فيلم أميركي طويل”، و”شي فاشل”، حيث واجه السلطة بالفكاهة السوداء، وكشف البنية المتعفنة لنظام طائفي يرتكز على الخوف، فعرّى الزيف، وهاجم التسلط، وكتب سيناريو بلد يبحث عن وطن في زحمة الطوائف.
رفض زياد أن يكون جزءًا من الطبقة الفنية المهادنة، إذ إنه وقف على الحد الفاصل بين الفن والسياسة، مسلحًا بجملة مُرّة، وبيانو صريح، وصوت يفضح أكثر مما يُغني، حتى تحوّلت مسرحياته إلى كتب مقدسة للمعترضين على كل شيء، إلا على قناعاتهم.
لم يتردّد في إعلان يساريّته، ولا في الدفاع عن فلسطين، ولا في إغضاب الإعلام، وظلّ يسخر من الجميع تقريبًا، بمن فيهم جمهوره، لأنه كان يرى أن الفن يجب أن يُربك لا يُرضي، وأن الفنان إذا أحبوه أكثر مما خافوا صدقه، فقد فشل.
– حياة خاصة تحرسها الأسوار والعزلة
تزوّج زياد من دلال كرم، وله منها ولد، لكن زواجهما لم يصمد، كما لم يصمد في وجه العزلة سوى صوته الداخلي، وحب طويل جمعه بالفنانة كارمن لبّس، التي نعته بكلمات تشبه الخسارة الوطنية أكثر من الحزن الشخصي العابر.
فقد زياد شقيقته ليال شابة، فتأثر بها عميقًا، كما عاش حياته بين تناقضات الحب والرفض، الغضب والانسحاب، فبقي محاطًا بعزلة اختارها طوعًا، تارة بسبب التعب، وطورًا لأنه رأى أن الضوضاء صارت أعلى من أي كلمة يمكن قولها.
تراجعت إنتاجاته في العقد الأخير، وغاب طويلاً عن المسرح، فيما بقيت أعماله القديمة تملأ الذاكرة الثقافية اللبنانية، وتُبثّ على منصات التواصل، لأن الجمهور كان يرى فيها مرآةً زمنية لا يمكن كسرها حتى وإن تحطّم زجاج الأيام حولها.
رفض زياد الذهاب إلى العلاج، بحسب وزير الثقافة، وكأنّه فضّل الموت في مكانه، على النجاة في مكان آخر، مؤمنًا ربما بأن أجمل النهايات تلك التي تأتي بلا بروتوكول، وبلا جنازات صاخبة، يكفي أن تأتي بورقة نعي بسيطة تقول: لقد انتهى.
– وداع واسع… وردود فعل تحوّلت إلى مراثٍ شعبية
نشر الرئيس اللبناني جوزيف عون بيانًا وصف فيه زياد بأنه ضمير حي وصوت الوجع، معتبرًا أنه كان يكتب الحقيقة كما هي، من دون تزيين أو تردّد، وقال إن لبنان خسر بفقدانه فنانًا لا يتكرر، ومثقفًا ظل على تماس مع الناس.
كتب رئيس الحكومة نواف سلام في “إكس” إن زياد كان صوتًا حرًّا، وفنانًا لا يشبه زمنًا محددًا، لأنه تنقّل بين العقود مثل شاهد على الخراب، وعلى أمل ناقص، وأضاف أن أعماله ستبقى حية حتى بعد أن غاب الجسد وسكت البيانو.
نعاه النائب ملحم خلف بعبارة: “ذاك الذي إذا عزف، أحيا الروح، وإذا اعتلى الخشبة، دوّت الحقيقة”، واعتبره واحدًا من آخر من تبقّى ممن لا يُساومون، ولا يبررون، بل يواجهون الانهيار بالضحك المرّ، واللحن الغاضب، والجملة التي تلسع.
وعقب إعلان رحيله، غصّت مواقع التواصل بمقاطع من أعماله، ومشاهد من مسرحياته، وتعليقات حزينة تطلب من فيروز أن تصبر على فاجعة الابن الثاني، بعدما رحلت ليال، ثم رحل زياد، وبقيت هي وحدها تتأمل في كل هذه الموسيقى، وفي هذا الغياب الثقيل.