كتاب الرأي

الأصول ليست عبئًا يُعيق الوصول

بقلم- ناصر مضحي الحربي

في زمنٍ تتسارع فيه الخطوات، بات الوصول غايةً تُبرِّر التفريط، وأصبح الطريق المختصر أكثر إغراءً من الرحلة المتأنية، حتى لو كان ثمنه التنازل عن الأصول. لا نتحدث هنا عن أصولٍ مادية فحسب، بل عن القيم، والمواقف، والسمعة، والمعنى العميق لما نمثّله قبل أن نصل إلى ما نريده.

باعوا الأصول لأجل الوصول؛ لأن الوصول اليوم يُقاس بالظهور، لا بالأثر. بالمنصة، لا بالمضمون. بالصورة، لا بالحقيقة. كثيرون وصلوا سريعًا، لكنهم حين التفتوا خلفهم لم يجدوا شيئًا يستحق العودة، ولا إرثًا يبرّر الرحلة. كانوا هناك… بلا جذور.

المشكلة ليست في الطموح، فالسعي حق مشروع، بل في الطريقة. حين يتحوّل الهدف إلى هوس، يصبح التنازل عادة، والتبرير مهارة، والصمت عن الخطأ فضيلة زائفة. عندها تُباع المبادئ قطعةً قطعة، ويُقايَض الثبات بالمكاسب المؤقتة، ويُختزل النجاح في لحظة تصفيق عابرة.

في الإعلام، في الثقافة، في الحياة العامة، رأينا من صعدوا لأنهم عرفوا من يرضون، لا ما يقولون. عرفوا متى يصفقون، ومتى يصمتون، ومتى يغيّرون مواقفهم حسب اتجاه الريح. وصلوا… لكنهم لم يقنعوا. حضروا… لكنهم لم يُحترموا. فالاحترام لا يُمنح لمن باع نفسه في الطريق.

الأصول ليست عبئًا يُعيق الوصول، بل هي البوصلة التي تمنحه معنى. من يصل بلا أصول، يصل فارغًا، سريع الذبول، كثير القلق؛ لأنه يعرف في داخله أن ما وصل إليه يمكن أن يُسحب منه بالطريقة ذاتها التي وصل بها.

التاريخ لا يتذكر من وصلوا أولًا، بل من بقوا أوفياء. لا يحتفي بالضجيج، بل بالأثر. ولا يخلّد الوجوه العابرة، بل المواقف التي دفعت ثمنها ولم تتراجع.

باعوا الأصول لأجل الوصول… فوصلوا، أما الذين تمسّكوا بأصولهم، فقد تأخروا قليلًا، لكنهم حين وصلوا، وصلوا كاملين

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى