كتاب الرأي

*اقتصاد القرار… كيف تعيد السياسات تشكيل السوق والمجتمع*

 

بقلم / عاطف علي الأسود

في كل رقم يتحرك على شاشات سوق الأسهم السعودي، تكمن قصة أكبر من المكاسب والخسائر اللحظية؛ قصة قرار، رؤية، وتحول اقتصادي متجذر. فالقرار الأخير الصادر عن الدولة لم يكن مجرد خطوة تقنية، بل جاء بوصفه جزءًا من نهج استراتيجي يربط السياسة الاقتصادية بالإنسان والمجتمع، ويضع التنمية المستدامة في قلب المعادلة.

فحين تصدر السياسات الاقتصادية من أعلى مستويات القيادة، محمّلة برؤية تمكينية، فإن أثرها يمتد بعيدًا عن الأرقام والمؤشرات، ليصل إلى استقرار القطاعات الإنتاجية، وخلق فرص نوعية للتوظيف، وتعزيز تنافسية الصناعة الوطنية. بهذا المعنى، يصبح السوق مرآةً ليس فقط للنشاط المالي، بل لتوجه الدولة في بناء اقتصاد متوازن، مستدام، ومتصالح مع متطلبات المجتمع ورؤية المستقبل.

القراءة السطحية لحركة السوق قد توحي بتقلبات اعتيادية، لكن التمعّن في المشهد يكشف أن السوق أصبح أكثر ارتباطًا بالاقتصاد الحقيقي وأكثر حساسية للقرارات التنظيمية والتحولات القطاعية. فالسوق لم يعد مجرد انعكاس نفسي لتوقعات المستثمرين، بل أداة قياس لمدى الثقة في السياسات العامة، وفي قدرة الاقتصاد على التحول من الاعتماد الأحادي إلى التنويع الإنتاجي.

ويأتي هذا في ظل عالم يواجه تحديات اقتصادية متسارعة، من ضغوط تضخمية إلى اضطرابات في سلاسل الإمداد. ورغم ذلك، يظهر الاقتصاد السعودي قدرة لافتة على التكيف، مستندًا إلى قاعدة مالية متينة، وسياسات نقدية متوازنة، وإدارة واعية للموارد. هذه العوامل أسهمت في الحفاظ على استقرار السوق، رغم التقلبات الخارجية.

أحد أبرز ملامح هذا التحول يتمثل في إعادة الاعتبار للقطاعات الإنتاجية، وفي مقدمتها الصناعة الوطنية. فالقطاع الصناعي لم يعد خيارًا تكميليًا، بل ركيزة أساسية في مسار التنويع الاقتصادي، ومصدرًا حقيقيًا لخلق القيمة المضافة، وتوليد فرص العمل، وتعزيز الصادرات غير النفطية.

اعتمد مجلس الوزراء برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد إلغاء المقابل المالي المقرر على العمالة الوافدة في المنشآت الصناعية المرخّصة. هذا الإجراء لا يقتصر أثره على تخفيف الأعباء التشغيلية، بل يفتح المجال أمام توسع المنشآت، ويعزز قدرتها على التوظيف النوعي، ورفع كفاءة رأس المال البشري. كما يعكس القرار رؤية استراتيجية تربط النمو الاقتصادي بالتنمية البشرية والاجتماعية، بما يجعل التوسع الصناعي محركًا للتنمية المستدامة وفرص العمل المحلية، ويعزز تنافسية الصناعة السعودية عالميًا.

وتتكامل هذه القرارات مع ما صدر مؤخرًا عن مجلس الوزراء من إعفاءات مدروسة، هدفت إلى تخفيف الأعباء التشغيلية عن القطاعات الإنتاجية. هذه الإعفاءات لا تُقرأ فقط من زاوية تخفيض التكاليف، بل من زاوية أعمق تتعلق بإعادة توجيه الموارد نحو التوسع، والتوظيف، والمسؤولية الاجتماعية، بما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويجعل النمو الاقتصادي أكثر شمولًا وعدالة. ويأتي كل ذلك تحت الرعاية الحكيمة لمولاي خادم الحرمين الشريفين، وبجهود سيدي ولي العهد، الذي يقود خطوات استراتيجية لتعزيز مكانة المملكة عالميًا في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مؤكدين التزام القيادة بدعم الاستدامة وتمكين القطاعات الإنتاجية في كل مرحلة من مراحل التحول الوطني.

على مستوى السوق، انعكست هذه التحولات في سلوك المستثمرين. فالثقافة الاستثمارية باتت أكثر نضجًا، والقرارات أصبحت أقرب إلى التحليل القائم على الأداء الفعلي للشركات، وجودة إدارتها، وقدرتها على التكيف مع التحولات الاقتصادية. كما أسهم تحسن الإفصاح والحوكمة في تقليص الفجوة بين السوق والاقتصاد الحقيقي.

أما الاستثمار الأجنبي، فقد وجد في السوق السعودي بيئة أكثر وضوحًا واستقرارًا، قائمة على قرارات استراتيجية لا على ردود أفعال ظرفية. هذا الانفتاح المدروس عزز من مكانة السوق إقليميًا ودوليًا، وربطه بحركة رؤوس الأموال طويلة الأجل الباحثة عن أسواق ناضجة وقادرة على الاستدامة.

وقبل الوصول إلى الخلاصة، لا يمكن قراءة أداء السوق بمعزل عن التحولات في السياسات الاقتصادية والتنظيمية، وهي تحولات انعكست إيجابًا على صحة الاقتصاد الوطني. فقد انتقلت السياسات من إدارة التحديات الآنية إلى بناء اقتصاد منتج ومستدام، يقوم على تمكين القطاعات الحيوية، وفي مقدمتها الصناعة، وتعزيز المرونة الاقتصادية، ورفع كفاءة سلاسل الإمداد. هذا التوجه أسهم في ترسيخ الاستقرار، وتحسين بيئة الاستثمار، وربط حركة الأسواق بالنمو الحقيقي، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.

في المحصلة، لم يعد سوق الأسهم السعودي مجرد منصة تداول، بل أصبح انعكاسًا مباشرًا لقرار الدولة، ومرآة لتحول اقتصادي يُدار بعقلية التخطيط لا المجازفة. ومن ينظر إلى السوق من زاوية الربح السريع قد يغيب عنه المعنى الأوسع، أما من يقرأه في سياق السياسات والتحولات، فسيدرك أنه جزء من مشروع وطني يُعيد صياغة العلاقة بين الاقتصاد والإنسان، ويضع التنمية الشاملة في قلب المعادلة، ضمن رؤية واضحة نحو مستقبل أكثر توازنًا واستدامة.

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى