كتاب الرأي

بين الدلال والبائع مواطنون للبيع بالجملة

إنهم مواطنون ولكنهم للبيع بالجملة ، إذا ما وُقيت الحياة شئ نفسها وفتحت معارضًها لمثل هذه الأزياء من السلع البشرية الناطقة . ولست « بمستعد » أن أمثل دور « الدلال » والبــائع بين البضاعة والمستبضع ولكنّ مهمتي ودوري أن أعلن عنها بمداد قلمي فحسب وعلى من له رغبة فليتقدم على وَجَل وحذر ببيان سعره . إن المواطن الصالح بجنسيه يُشفق بلا شك وبالوفاء والفطرة على مجتمعه وبني قومه من الانهيار والدعة والتداعي ، ويحرص ما شاء له الحرص أن يظل سليما معافى من كل الأمراض والمحن والإعاقات لأن في صلاحه وسلامته قوة للأمة ومحطة سلام وأمان وافتخار للبلاد . ولما لهذا الجانب العظيم من العلوّ والمكانة والأهمية ؛ تسابقت الأمم منذ فجر التاريخ على إرساء قواعدها عليه وعلى تثبيت أقدامها وقوامها على أرضه وشواطئه ؛ وكانت الأمة العربية في صبح نهضتها الروحية والمادية ؛ مثالاً يحتذيه السائرون إلى مراتع الخير ومناهل العز والشرف والتمكين ؛ ولكنّ المتأمل في واقع الأمة العربية الحاضر؛ يجد نفسه في حيرة وتساؤل عما ورثناه واستبقيناه من ذلك التراث الموؤود ؟!
ولماذا نزحت تلك القيم والركائز الخلقية والحياتية من مواقعها ؛ ولم تحاول الأمة استلهامها واستردادها إلى حضيرتها ؛ مع أن هذا أمر مستطاع إذا تجردت من السفاهة والهوى وتوشحت بوشاح الاستقامة والحكمة والمسؤولية ، وتغلّب فيها الخيرُ على الشرّ وجعل كل فرد من نفسه آمراً ناهيا يصدها عن مهاوي الفساد والشرور ويعليها إلى مراقي البر والفضيلة والرشاد .
لو أن أحداً من الباحثين والمصلحين قام بجولة استطلاعية واستبيانية عامة على مناحي عديدة مما يرتاده الناس ويتعشقونه لحزّ في نفسه ما يرى هناك ويسمع في المجالس الليلية والنهارية أو ما يُسمى بـ « المقاهي والديوانيات » ثم عرج بعدهاً مُكرهاً إلى مفترقات الطرق وعتبات المحلات لرأى وسمع العجب العجاب مما لا يليق ولا يفيد ، فتلك المناحى والمرتادات قد أفقدت حقوقها ، ويُتّمت من وقارها وحشمتها إلا ما قل منها وضؤل.
وإن ما يشق على الإنسان ويُعنته أن يتجاهل أبطال تلك المجتمعات والمجالس حقوق غيرهم في الحياة ويتناسوا في لهيب الأهواء وطغيان الذات الدروس الواقية والمنهج المصلح من الشريعة الإسلامية التي تزكي النفوس وتلجم الجوارح عن تتبع العورات والسخرية بالناس والنقيصة من محاسنهم ومزاياهم حتى فيما هو من التفاهة والسخافة والتطاول بمكان سحيق ، فالمشهد الأول بعد أن ينكشف اللثام عن الألسن الحادّة والوجوه الكالحة ، وبعد أن تُدار كؤوس الشاي ، يتصدّى أحدُهم لإنسان آمن في بيته أو عمله يقع في مصيدتهم ، وقد بسط الله له في رزقه وآتاه من الدنيا من حيث لا يحتسب فأراد هذا الإنسان المحسود أن يظهر نعمة ربّه عليه في ملبسه ومطعمه ومسكنه ومركبه ولكن وحوش تلك المجتمعات تأبى إلا أن تنهش لحمه وتمزق نعمته فيديرون بينهم أجهزة النقد والمسبة لذلك الصيد المعقور، وتدق ساعة الغيرة والغيبة في نفوسهم فيوسعونه تجريحاً بألسنتهم وتقوّلا كاذبا وتفوها مسرفاً ، ويحللون شخصيته المستباحة ومكانته الجريحة تحليلاً مزوراً لا يتفق مع مكارم الأخلاق وروابط الأخوة وسلامة النفس والمنـزّع والضمير فهو في نظرهم الحاقد ، قد سافر بالأمس القريب إلى بلاد أخرى يحمل خفى و حنين على ظهره لا يملك شيئاً من الدنيا فكيف به وقد عاد بمال وفير ونعمة وافرة ، فهو لا يستحقها وليس مؤهلاً لها لأنه مُعدمّ من حصافة الرأي وعلو النسب والجاه التي يتمتعون بهما ويحكمون على غيرهم بالحرمان منها ؛ مهما رزقهم الله من صفات وشمائلَ خُلُقية وإنسانية أجل وأسمى ما يملكون ويحلمون ويتذرعون به ويفخرون ، وبئس ما يفخرون به مجرداً من الخـلق والسلوك السوي وإنصاف الآخرين .
وعلى هذا الصراط المعوج تتوالى مشاهد أخرى ؛ يُؤكل فيها لحم صاحب عمل جديد ، وتُنهش فيها أذنُ ذي نعمة محسود أو صاحب فكرة أو دعوة حميدة ؛ يمكن أن تختلف مع مصالحهم الفردية وعصبيتهم المقيتة، ألا ما أغنانا بعيوبنا عن عيوب الآخرين ، وما أجدرنا أن نكون عوناً على تنمية شجرة الإخاء والمحبة بين الناس ليعيش المجتمع حيائه المعدودة بأمــان وتعاون وائتلاف ، وهذا كتاب الله المجيد بيننا تدعونا نصوصه ويهتف بنا هدية الكريم بقوله تعالى ( يَا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يسخر قوم مِن قَوم عَسَى أن يَكُونُوا خيراً منهم وَلاَ نِسَاء مِن نِسَاء عَسَى أَن يَكُنْ خَيْراً مِنهُنَّ ولا تلمِزوا أنفُسَكُم وَلاَ تَنَابَزوا بالألقاب ؛ بئس الاسم الفُسُوقَ بَعدَ الإيمان وَمَن لَم يَتُب فأولَئِكَ هُمُ الظالِمُونَ )( يَا يهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتنِبُوا كَثيراً مِنَ الظن إِنَّ بعض الظن إِثمْ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغتب بعضكُم بَعضاً ،أيحب أحَدُكُم أَن يَأكُلُ لحمّ أخيه ميتاً فكرهتُمُوهُ ؛ وَاتَّقُوا الله ؛ إن الله تواب رحيم ) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وا جَعَلنَاكُم شُعُوبا وقبائل لتَعَارَفُوا ؛إن أكرَمَكُم عند الله أتقاكم ،إن الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
وهذا هدي نبي هذه الأمة ورسولها ، صلى الله عليه وسلم ، ينهى ويقول :
«لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ؛ وكونوا عباد الله إخوانا » « ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش البذىء » ويرغب بمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم فيقول : « إن الله تعالى أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحدّ على أحد».
إنها همسة من الأعماق نوجهها ، لكل فرد في المجتمع ، مهما كان موقفه ومستواه ونخص بها رجال التربية والثقافة والإعلام والتعليم بأن يؤدوا دورهم ورسالتهم لإصلاح الفرد والمجتمع ، بعد إصلاح أنفسهم وأجهزتهم ، فبطوقهم أن يزكوا النفوس ويهذبوا الأخلاق ، وفي رسالتهم ومناط تكليفهم أن يكونوا دعاة خير وتوجيه وتعاون وبر فهلا بلغت وأبنت اللهم فاشهد – ياكريم.

 

يمكنك التعليق على  الموضوع في المكان المخصص 
او مراسلة الكاتب  لملاحظتك على الخاص من خلال الجدول

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى