“في حضرة البساطة والوقار”
ثَمَّةَ أَرْوَاحٌ تَخْطَفُ القَلْبَ قَبْلَ أَنْ تَرَاهَا العَيْنُ، وَتَغْمُرُهُ بِوِدَادٍ خَفِيٍّ مِنْ أُولَى لَحْظَةٍ، وَكَأَنَّ الأَرْوَاحَ تَهْمِسُ سِرًّا أَنَّ فِي هَذَا القَلْبِ جَمَالًا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ.
هَكَذَا كَانَ شُعُورِي تِجَاهَ رَجُلٍ اسْتَقَرَّ لَهُ التَّقْدِيرُ فِي أَعْمَاقِي قَبْلَ أَنْ تَجْمَعَنِي بِهِ مَجَالِسُ اللِّقَاءِ، رَجُلٍ تَجَلَّتْ مَلَامِحُ الوَقَارِ فِي قَسَمَاتِهِ، وَأَشْرَقَتْ أَنْوَارُ الطِّيبَةِ فِي مَحْيَاهُ.
أَحْبَبْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُشَرِّفَنِي اللهُ بِلِقَائِهِ، إِذْ كَانَ يَكْفِينِي أَنْ أَرَى صُوَرَهُ الَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنْ ذَاتِهَا، تَحْمِلُ بَيْنَ خُطُوطِهَا مَسْحَةَ هَيْبَةٍ وَرُقِيٍّ، وَتَتَضَوَّعُ مِنْهَا رَائِحَةُ البَسَاطَةِ وَالصِّدْقِ.
وَمَعَ تَوَالِي الأَيَّامِ، حِينَ حَدَّثَنِي عَنْهُ صَدِيقٌ أَعْرِفُ صَفَاءَ مَعْدِنِهِ وَنَقَاءَ سَرِيرَتِهِ، زَادَنِي اللهُ حُبًّا لَهُ، وَرَوَى لِي حَدِيثُهُ عَنْهُ عَطَشَ قَلْبِي لِلاِطْمِئْنَانِ، فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الحُبَّ الَّذِي وَقَرَ فِي قَلْبِي لَهُ لَمْ يَكُنْ سَرَابًا، بَلْ كَانَ رُؤْيَةَ القَلْبِ حِينَ يُبْصِرُ مَا لَا تَرَاهُ العَيْنُ.
لَقَدْ جَمَعَ هَذَا الرَّجُلُ الفَذُّ بَيْنَ مَجْدِ المَكَانَةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَظَمَةِ الرُّسُوخِ العِلْمِيِّ، وَبَرَاعَةِ التَّمَيُّزِ المَالِيِّ وَالاِقْتِصَادِيِّ، وَرَغْمَ مَا حَبَاهُ اللهُ مِنْ رِفْعَةٍ وَسُمُوٍّ، ظَلَّ مُتَوَاضِعًا، بَسِيطًا، تُشْرِقُ مَلَامِحُهُ بِاِبْتِسَامَةٍ دَائِمَةٍ لَا تُفَارِقُ مَحْيَاهُ، كَأَنَّهَا رِسَالَةُ حُبٍّ وَسَلَامٍ يُوَزِّعُهَا بِسَخَاءِ عَلَى مَنْ حَوْلَهُ.
كَانَ إِذَا اِسْتَقْبَلَ النَّاسَ، اِحْتَضَنَهُمْ بِرُوحِهِ قَبْلَ كَلِمَاتِهِ، غَنِيَّهُمْ وَفَقِيرَهُمْ، كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، صَاحِبَ المَنْصِبِ وَالإِنْسَانَ العَادِيَّ، دُونَمَا تَفْرِيقٍ أَوْ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ كَانَ يَرَاهُمْ جَمِيعًا بِعَيْنِ المَحَبَّةِ وَالإِنْصَافِ، وَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ كِتَابٌ مَفْتُوحٌ لَا يَقِيسُهُ بِمَالٍ وَلَا بِجَاهٍ، بَلْ بِصِدْقِ السَّرِيرَةِ وَصَفَاءِ الطَّوِيَّةِ.
لَقَدْ كَانَتْ بَسَاطَتُهُ زِينَةً لِمَكَانَتِهِ، وَتَوَاضُعُهُ تَاجًا فَوْقَ هَامَتِهِ، وَمَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وِسَامًا لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ اِتَّسَعَ قَلْبُهُ رَحَابَةً وَاتَّسَعَتْ رُوحُهُ صَفَاءً.
فِي حَضْرَتِهِ تَشْعُرُ أَنَّكَ أَمَامَ رَجُلٍ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ القِيَمِ النَّبِيلَةِ؛ يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ المَجْلِسُ، لَا يَطْلُبُ صَدَارَةً وَلَا يَتَعَالَى بِمَقَامٍ، يَتَحَدَّثُ مَعَ الجَمِيعِ بِعَفَوِيَّةٍ تَخْلُو مِنَ التَّكَلُّفِ، وَكَأَنَّمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَسَاطَةِ عَهْدٌ لَا يُنْقَضُ.
كَانَ يُحْتَرِمُ الجَمِيعَ كَمَا يُحْتَرِمُ نَفْسَهُ، وَيُوَزِّعُ عَلَى الحَاضِرِينَ اِهْتِمَامَهُ كَمَا يُوَزِّعُ المزارعُ مَاءَهُ عَلَى البَسَاتِينِ العَطْشَى؛ فَيُثْمِرُ حُبًّا، وَيُورِقُ تَقْدِيرًا، وَيُزْهِرُ وَفَاءً.
وَابْتِسَامَتُهُ العَفْوِيَّةُ كَانَتْ مِرْآةً لِرُوحٍ شَفَّافَةٍ، وَقَلْبٍ أَبْيَضَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا الحُبَّ وَالخَيْرَ، لَا يَزْدَادُ إِلَّا بِهِمَا إِشْرَاقًا وَبَهَاءً.
وَتِلْكَ الأَخْلَاقُ الرَّفِيعَةُ لَمْ تَأْتِ عَبَثًا، بَلْ كَانَتْ حَصَادَ تَرْبِيَةٍ رَفِيعَةٍ وَغَرْسٍ كَرِيمٍ، وَتَعْلِيمٍ مَفْعَمٍ بِالقِيَمِ، وَزَرْعٍ فِي أَرْضِ نَفْسٍ أَدْرَكَتْ أَنَّ المَقَامَاتِ تُبْنَى بِالتَّوَاضُعِ لَا بِالتِّيجَانِ، وَأَنَّ الكَرَامَةَ تَتَجَلَّى فِي التَّوَاضُعِ لِلنَّاسِ لَا بِالاِسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَحِينَ تَجْلِسُ إِلَيْهِ، تَشْعُرُ أَنَّ كَلِمَاتِكَ تَحْظَى بِاهْتِمَامِهِ، وَأَنَّ حَدِيثَكَ يَجِدُ طَرِيقَهُ إِلَى قَلْبِهِ لَا إِلَى أُذُنِهِ فَقَطْ، فَتَخْرُجُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَقَدْ خَفَّ عَنْكَ عِبْءُ الحَيَاةِ، وَاسْتَنَارَتْ فِي دَاخِلِكَ مَسَاحَاتٌ مِنَ الرَّاحَةِ وَالسَّكِينَةِ.
وَمَعَ صُحْبَةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، تَشْعُرُ أَنَّكَ فِي مَعِيَّةِ السُّعَدَاءِ؛ فَمِنْهُمْ تَنْبَعِثُ رَائِحَةُ المِسْكِ، وَإِلَى جِوَارِهِمْ تَسْتَشْعِرُ أَنَّكَ تَسْتَنْشِقُ هَوَاءً أَنْقَى، وَتَتَنَسَّمُ نَفَحَاتٍ طَيِّبَةً لَا تَزُولُ، بَلْ تَبْقَى عَالِقَةً فِي القَلْبِ، دَافِئَةً فِي الذَّاكِرَةِ.
وَخِتَامًا، فَإِنَّ كُلَّ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ، مِنْ سُمُوِّ الأَدَبِ، وَرَفْعَةِ التَّوَاضُعِ، وَرُوحِ المَسْؤُولِيَّةِ المُجْتَمَعِيَّةِ، وَحِكْمَةِ المَالِ وَالأَعْمَالِ، وَجَدْتُهَا مُتَجَسِّدَةً مَاثِلَةً أَمَامِي فِي شَخْصِ
الشيخِ فَيْصَلَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّاجِحِيِّ.