كتاب الرأي

حروف مبعثرة …

 

 

أنا معك اسير في هذا الطريق لا أعلم الى أين نتجه .. لا أحب ان تأخذني للمجهول ؟ ولا أرضى على ذاتي أن أكون تبعا لأحد ، أسير دون هدف معلوم ؟ …  هكذا افصح لي ( صديقي ) الحميم ونحن سائرون داخل طرقات قريتنا المتعرجة بفعل تضاريسها

وقد يكون معه العذر ( وأنا الوم ) رغبت أن اجعلها له مفاجئة بمناسبة العيد اصطحابه معي لأمر في نفسي لم أخبره عن مقصدي حتى لا أفسد لحظة ( الحدث ) ..

لكن فضوله المعتاد جعله يكرر سؤاله عليّ فأوضحت له أنه سيشكرني كثيرا على هذا المشوار المتعب من اسفل قريتنا لأحد بيوت كبار السن الذي يقع منزله في أعلاها .. لم ابين له حقيقة المقصد .. لكني أوحيت له بأننا سنزور احد الأشخاص المحبين لي وله ..

ولكم أن تتخيلوا طريقنا لابد أن نسلكه من بين بيوت قديمة مبنية من الحجر والطين القليل منها أدخل عليها مالكوها البناء الحديث تتوسطها الطرقات المتعرجة التي تزين جوانبها وجدران المنازل المارة بها الأحراش والاشجار الكثيفة بفعل طبيعة المنطقة كأشجار الطلح والسلام والسدر والمض والحنا .. وغروس الريحان والبرك والكادي والشذاب مما يتفاخرن به ربات البيوت امام منازلهن .. وغيرها مختلفة الأسماء والأشكال متفاوتة الروائح العطرية ..  

لذلك كنت حريصا أن تبدأ زيارتنا الثامنة صباحا وقد كسى شعاع الشمس بنوره الجبال والأودية والشعاب اكسبها شيئ من الدفء

طريقنا يحتضن كذلك بعض الجداول التي لاتزال تنساب منها المياه بواقي الأمطار التي هطلت على قريتنا والقرى المجاورة لها .. بفعل طبيعتها المناخية ..

استمتاع عجيب تتصف به قريتي يعشقه ويألفه ويعرف تفاصيله من هم مثلي ارتبط تاريخ حياتهم بمثل ما عشت فيه ردحا من الزمن واصبح اكسير حياة لا يمكن الاستغناء عنه ..

اقتربنا من مقصدي فعرف صاحبي وقتها الى أين نتجه .. أسفر وجهه وقد ايقن بالوصول بعد رحلة ( مشي راجل ) دام اكثر من 20 دقيقة صعودا .. لكن عناده جثم على رغبته وطبعه في أن يسألني كذلك  ثم قال لي بصوت مرتفع .. لماذا لم تجعلنا نركب السيارة ونخفف عن أنفسنا مشقة الصعود بين هذه الطرق المتعرجة ..  

ضحكت في وجهه وأجبته .. هذا ما قصد أن يكون الأجر لي ولك مضاعفا فمن نزوره الآن وأنت به أعلم اكثر مني ، هو من الأصدقاء الخاصين لوالدينا رحمهما الله وعفى عنهما يستحق منا التعهد والزيارة في مناسبة كهذه وغيرها في زمن قل فيه الوفاء وطُمست بعض العادات والتقاليد بل وذابت وسط معترك الحياة ..

 وسقط ( عمدا ) من بعضنا مثل هذه المبادرات الخّيرة التي فيها رضاء لله سبحانه وتعالى أولا ثم لمثل هذا الرجل الذي يستحق منا اكراما لوالدينا وبرا بهما كل تقدير ومودة ..

اقتربنا من المكان وانتهى حديثنا بطرقي الباب والنداء بإسم ذلك الشيخ المقصود بالزيارة .. رد علينا صوت احد ابنائه من الداخل مرحبا ومهللا وقد كان باب منزلهم ( متواريا ليس بالمقفل ولا بالمشرع على مصراعيه ) ..

دخلنا لمجلسه فوجدنا ذلك الشيخ الذي رسمت السنين على محياه قصص تحكي الام المعاناة في زمنه .. وتؤكد الثبات والجلد ومصارعة فواجع الأيام وخطوبها في وقت كان الحصول فيه على كسرة خبز أو جرعة ماء بالكاد يستطيع طالبوه نيله والحصول عليه ..

كانت خدمة الأرض بالزراعة والفلاحة هي مصدر القوت الوحيد والبعض من المواشي لمن يستطيع إقتنائها وتربيتها .. تلك الأيام والليالي في ذلك الزمن ( حبلى  ) بالكثير الكثير من العوز وضيق ذات اليد .. لكن همم رجال ذلك الجيل وسنن الوفاء والتواد والتعاضد كان الجلباب الذي يدثر السلوك العام لما بين افراد العشيرة بشكل خاص والقبيلة بشكل عام ..

بمجرد أن لمح دخولنا واقبالنا عليه نهض ذلك الرجل هاشا باشا ومرحبا .. قبلنا رأسه ويديه تقديرا وودا وبرا بمن بادلهم الود والتقدير من آهالينا الذين سبقوه لدار القرار وقضوا مجتمعين سني اعمارهم على تعاضد وتعاون على الخير قبل عكسه .. امعن في الترحيب ومعه إبناه المتواجدين في مجلسه ..

كانت رائحة البخور تملاء المكان ليس استعدادا لقدومنا لكنها عادات مجالس الاصفياء من اهل تلك ( الصفة ) بعيدا عن معطرات وملطفات الجو الحديثه .. فكثير من البيوت في قريتنا وغيرها تكون روائح البخور وحضور القهوة والشاي وقليل من المتاع المناسب كالتمر وغيره حاضرة لا تنقطع استعدادا لاستقبال الزوار أي وقت يكون ..       

استدار الينا ووجهه لايزال بالبشر مطلقا ورحب بنا وشكرنا على هذه الزيارة اللطيفة التي تركت في نفسه اثرا كبيرا وعقب بالقول رفع الله قدركما وكتب اجركما واجزل لكما المثوبة وقد تذكرتموني بهذه الزيارة .. بل  إنكما بهذا الفعل جبرتم بخاطري واحييتم في نفسي حب ابائكم ووفائهما عليهما رحمة الله واموات المسلمين ..

بعد برهة من الوقت اضطررنا لطلب الآذن بالمغادرة لترك مجال لمن قد يفد اليه بعدنا .. لكن ما يتحلى به ذلك الشيخ من الوقار والطباع والفضائل اصر على بقائنا وعدم مغادرتنا الا بعد وجبة الغداء ولآن الوقت كان فيه متسع أن نقدم له اعذار صادقة برغبتنا في زيارة اشخاص اخرين لهم علينا حق واجب مثله وامام توسلاتنا اطلق لنا كلمة الرضى والقبول على أن نعود في وقت اكثر عمرا زمنيا نسترجع فيه معه  بعض الذكريات التي جمعته بأبائنا ..

بقدر حفاوة الاستقبال كان الوداع منه لنا معطرا بدعوات التوفيق والسداد تخللها بخور العود والطيب وخرجنا من داره عائدين نفس طريقنا وبعد مسافة ليست ببعيدة نظرت لوجه صاحبي وقد ( اغرورقت عيناه بالدموع ) استوقفته تحت ظل  أحد اشجار السدر الكبيرة المعمرة لأسأله ماذا جرى ولماذا الدموع رد على ورأسه للأرض

للأسف كم تشغلنا الحياة ببهارجها وزينتها الفانية عن مثل هذه المحامد التي لا تكلفنا وقتا كثيرا ربما نصرفه منتظرين دورنا امام احد المطاعم او الكافيهات لنملاء بطوننا بما نريد ونسينا أن نملاء موازين حسناتنا بجبر خواطر من احبونا واحببناهم وحتى وإن لم يكن بيننا وبينهم رابطة من العلاقات الشخصية فقد تكون علاقة جوار او علاقة عمل او قل ما شئت من العلاقات التي من الممكن ان نستغل مثل هذه المناسبات لزرع بذرة الخير في زمن جفت فيه منابع التذكر والاهتمام .. سحبت بيدة اليمني ورتبت على كتفه موافقا له فيما ذهب اليه فكره .. واكملنا سيرنا عائدين لمنازلنا .. وفي الختام لا أجد سوى القول .. دمتم جميعا في حفظ الباري … وعيدكم مبارك ..

           

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى