كتاب الرأي

تأملات في زمن يضجّ بالضجيج

 بقلم – ناصرمضحي الحربي

من وحي الأفكار الصادقة تنبع الكلمات، لا من زخرف القول ولا من بريق البلاغة وحدها.
فليست الفصاحة أن نحسن سبك العبارات، ولا البلاغة أن نرصّ الجمل رصّاً؛ البلاغة الحقيقية هي أن نعرف متى نتكلم، وأن ندرك متى نصمت.
ففي العالم الذي يزداد صخباً كل يوم، تصبح قيمة الصمت أعلى من الذهب، وتغدو كلمة واحدة تُقال في وقتها أثمن من ألف خطبة تُقال في غير وقتها.
وفي خضم هذا الازدحام النفسي والفكري، يغدو التوازن فضيلة منسية.
فالإسراف في اليأس ضعف، بل هو انكسار داخلي يأكل صاحبه من دون أن يراه أحد.
والإسراف في اليأس نوعٌ من الانتحار البطيء، يطفئ الروح قبل أن يخمد الجسد.
وفي المقابل، فإن الإغراق في الأمل نفسه قد يكون غروراً، لأن التفاؤل عندما يفقد صلته بالواقع يتحوّل إلى هروب لا إلى قوة.
أما الإسراف في المادة فهو باب واسع للانتماء إلى «إخوة الشياطين»؛ إذ يتحوّل الإنسان إلى عبدٍ لما يملك، بدل أن يكون سيداً لنفسه ومشاعره ومصيره.
لا عيب في السؤال ولا نقص في الاعتراف بالجهل. فالخجل من السؤال يورّث جهلاً مزمناً، بينما السؤال نفسه باب للمعرفة، وحرية فكرية، وشجاعة في طلب الحقيقة.
أن تجهل معلومة ليوم واحد خيرٌ من أن تحمل جهلك طوال العمر مدفوناً في داخلك، يمنعك من النمو والتطور.
وفي رحلة الإنسان الطويلة، يظل كل منا بحاجة إلى من يمنحه الثقة، ويشحن داخله بطاقة إيجابية تعينه على الاستمرار. نحتاج إلى من يفهمنا، لكننا نحتاج أكثر إلى أن نفهم أنفسنا.
فمعرفة الإنسان لـ«حدود نفسه» ليست نقصاً ولا ضعفاً؛ إنما هي أعلى درجات الحكمة.
أن تعرف أين تقف، وأين تُخطئ، وأين تتقدّم، تلك مهارة لا يتقنها إلا القليل.
ولأن الحياة مزدحمة بالتناقضات، ستجد دائماً من يستكثر عليك مشاعرك، أو يشكك في حسّك المرهف، أو يتهمك بالرومانسية المفرطة.
ولكن إن كنت رومانسياً بحق، فلا تتراجع. فالرومانسية اليوم، في زمن المادة والقسوة، كنز لا يفنى؛ ثروة وجدانية تحفظ إنسانيتك من القبح، وتضخ نبضاً في قلب العالم المتيبّس.
ومهما كبُرنا، فالحاجة إلى العطف لا تزول. لسنا آلات ولا صخوراً؛ بل بشرٌ تثقلنا الهموم كلما تراكمت السنوات. وما أحوجنا إلى من يربّت على أرواحنا، لا على أكتافنا فقط. فالعطف ليس عيباً، بل نعمة تذكّرنا بأننا نستحق أن نُحتضن ونُفهَم ونُسمَع.
أما من يعاني من السهر فليجرب أن يصادق النوم، لا أن يعاديه.
ومن يملّ كثيراً فليجرب أن يتصالح مع نفسه قبل أن يلوم العالم من حوله. ومن يعاني – بشكل غريب – من «كثرة الكرم»، فليتذكر أنّ العلاج ليس في البخل.
فالجود من الوجود، والإنسان لا يخسر حين يعطي، بل يخسر حين يقسو قلبه.
إنها تأملات، لكنها ليست مجرد كلمات؛ إنها مرايا نرى فيها أنفسنا، لعلنا نتعلم من خلالها أن الحياة أجمل عندما نعيشها بتوازن، ونحتفظ فيها بقدر من الإنسانية، ونفهم حدود أنفسنا قبل أن نطلب من الآخرين أن يفهمونا.

ومن وحي هذه الأفكار… يبقى السؤال الأهم: هل نملك الشجاعة لنصغي إلى أنفسنا؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى