الغريب الذي علّمني الجرأة
الكاتبة / عبير سيف الشبلية
ضممتُ جناحيّ بحذر عن الناس، وبينما كنت أتحاشى الاقتراب، تقدم أحدهم نحوي. لم يهاجمني، بل عاملني برفقٍ ولين، ضمّني إليه، وأسكنني مطمئنًا عنده.
رأيتُ في وجهه ملامح الغرابة، وأظهرت وجهي بريبةٍ لم أستطع إخفاءها، لكنني آثرت الصمت، وتمسّكت به كدرع.
سألني بفضول ممزوج بالعِتاب:
ــ “ألم يعلموك أن تصافح الناس الذين تقابلهم؟!”
وقفتُ حائرًا، أحاول إقناع نفسي بالبقاء في هذا المكان الذي لا أرتاح له. بدا كل شيء من حولي مشؤومًا، ولكنني تمسكت ببصيص أمل.
ثم، فجأة، وقع أمر مربك، عمّت البلبلة والتشويش أرجاء المكان. أدركت أنني وقعت في فخ، لكن ما أثار الاهتمام هو إعلان الجهات الرسمية عن القبض على عدد من المشتبه بهم، ومصرع أحدهم في الأحداث. بقيت أنا وذلك الغريب في مأمن، وقد صرّحوا رسميًا بعدم صلتنا بالفوضى.
كانت الرحلة كلها مدعاة للدهشة، وكأنها تفيض بالحياة، على عكس توقعاتي الأولى. تساءلت في داخلي:
ــ “هل أقبل بها؟ وأمضي؟”
بدا الغريب وكأنه يقرأ ملامحي، رماني بنظرة مبهمة، ثم ابتسم وقال:
ــ “أظهر الضعف، ودعها تساعدك!”
لم أفهم قصده، ولا نواياه، لكن كلماته اخترقتني. جلست على ظهر السفينة، وكان يجلس إلى جواري كظلي. انتابني القلق، تجاهلته، بل تظاهرت بعدم الاهتمام. لكنني لم ألبث أن اختلست النظر إليه، فوجدته مستمتعًا بأجواء السفينة، يشارك بروح حماسية لا تشبه تحفظي.
لم أفهمه بعد، لكن الجو راق لي، والهواء كان عليلًا، والصحبة باتت ملائمة لمزاجي. نظراته لا تزال عليّ، وكأن ملامحه تقول لي:
ــ “ارمِ خوفك جانبًا، وانطلق!”
لأول مرة منذ زمن، قررت أن أُجازف. وأعدت المحاولة.
قضيت وقتًا طيبًا في تلك الليلة، وتبادلت الحديث مع الغريب، أحاديث مشوّقة، وقصصًا طريفة. ثم صمت، وهمس بقناعة هادئة:
ــ “الانطوائيون يمتلكون ميزة جميلة، يستطيعون أن يحبوا العزلة كما يشاؤون. أما في الشرفات، فالمَرِحون يجدون شعبيتهم… والناس دائمًا يقبلون على المَرِحين.”
شعرت وكأن عبئًا ثقيلًا انزاح عن كاهلي.
وبعد كل ما مرّ بي في هذا الجو الغريب، بين الحيرة والعفوية، قلت له أخيرًا:
ــ “لا أنكر أن شيئًا من الشك والفزع تسلل إليّ، ولكنني الآن أقولها بفخر: أنا من تجرّأ.”
ابتسم، وقال بثقة وطمأنينة:
ــ “خلف الله عليك، وعوّضك بالأفضل.”
ثم بدأ يسرد لي حكايات مغلّفة بالحنين، عن وطنه، ومنزله، أسرته، رائحة بيته، فراشه، ومكانه الذي يأوي إليه… حتى شعرت أنني أرى ما يصفه، وأتنفسه.
لقد حيّرني هذا الغريب، وأثار دهشتي. عشت لحظة انبهار حين نطق باسماً:
ــ “مكان نابض بالحياة… أفضل من أن تمضيه وحيدًا، تنظر إلى الحوائط البيضاء الباردة، والسقف المربّع الممل.