قضية “خاطفة الدمام”: إسدال الستار على جريمة هزّت الوجدان السعودي لأكثر من عقدين
الدمام/ناصرمضحي الحربي
في خطوة مفصلية أنهت إحدى أكثر القضايا الجنائية تعقيدًا وألمًا في الذاكرة السعودية الحديثة، أعلنت وزارة الداخلية يوم الأربعاء 21 مايو 2025 عن تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بحق الجانيين الرئيسيين في قضية “خاطفة الدمام”، التي شغلت الرأي العام لأكثر من عشرين عامًا.
وأكد البيان الرسمي الصادر عن الوزارة أن تنفيذ الحكم تم في المنطقة الشرقية بحق كل من مريم بنت محمد بن حمد المتعب، وهي سعودية الجنسية، ومنصور قايد عبدالله، يمني الجنسية. وقد نُفذ الحكم بعد استيفاء جميع الإجراءات القضائية اللازمة، مرورًا بكافة درجات التقاضي، وصولًا إلى المصادقة النهائية من المحكمة العليا.
ويحمل تنفيذ حكم “القتل تعزيرًا” دلالة قانونية وشرعية بالغة، إذ يُعد التعزير في الشريعة الإسلامية عقوبة تقديرية يفرضها القاضي على الجرائم التي لا يتوافر فيها حد شرعي أو قصاص، لكنها تصل في فظاعتها إلى مستوى “الإفساد في الأرض” الذي يستوجب أقصى درجات العقوبة.
ملف جنائي معقد: سنوات من الخداع والانتهاك
عرفت هذه القضية إعلاميًا باسم “خاطفة الدمام”، وبرزت بوصفها واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا من حيث الوقائع والأبعاد النفسية والاجتماعية. لم تكن مجرد وقائع خطف أطفال، بل امتدت لتشمل تزويرًا في الأنساب، انتحالًا للصفات، ممارسات شعوذة وسحر، وعزلاً تامًا للضحايا عن هوياتهم الأصلية.
فقد أقدمت المتهمة مريم المتعب على خطف ثلاثة أطفال حديثي الولادة من داخل المستشفيات، في عمليات منفصلة جرت بفاصل زمني بلغ ثلاث سنوات بين كل حادثة وأخرى، مستغلة ثقة الأمهات والمحيط الطبي، ومنتحلة صفة ممارسة صحية. ما يكشف عن وجود نمط إجرامي ممنهج وخطة محكمة بعيدة المدى.
ولم تقف الجريمة عند حد الاختطاف، بل امتدت إلى تزوير الهويات، ونسب الأطفال إلى أسماء غير آبائهم الشرعيين، وتربيتهم في عزلة عن أسرهم البيولوجية، مع حرمانهم من الحقوق الأساسية، كالتعليم والهوية الوطنية.
منصور قايد عبدالله: الشريك الممكّن
لم تكن مريم المتعب وحدها، بل كان إلى جانبها منصور قايد عبدالله، الذي لعب دورًا محوريًا في تسهيل عمليات الاختطاف والتستر على جرائمها. وقد أثبتت التحقيقات أن منصور كان على علم تام بالوقائع، وساهم بشكل فعّال في توفير الغطاء اللازم لاستمرار الجريمة طيلة عقدين.
هذا التكامل بين العقل المدبر والمنفذ والداعم والمتستر، هو ما دفع القضاء إلى تحميله المسؤولية الكاملة، وإنزال العقوبة ذاتها به.
كشف الخيوط بعد أكثر من عشرين عامًا
لم تبدأ القضية في الانكشاف إلا في السنوات الأخيرة، حين حاولت مريم استخراج وثائق ثبوتية للمخطوفين، ما أثار شكوك موظفات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في الدمام، وأطلق سلسلة من التحقيقات الدقيقة.
باشرت النيابة العامة جهودًا واسعة، تم خلالها تنفيذ 247 إجراءً تحقيقياً، شملت 40 جلسة مع 21 شخصًا بين متهم وشاهد. وأسفرت التحقيقات عن توجيه الاتهام إلى خمسة أشخاص، من بينهم من شارك في التزوير، أو قدم معلومات كاذبة ساعدت على طمس الحقيقة لعقود.
رحلة التقاضي: من لائحة الاتهام إلى التنفيذ
وجهت النيابة العامة لائحة اتهام تضمنت جرائم بالغة الخطورة، شملت: الخطف، التبني المحرّم، التزوير، ممارسة السحر، إقامة علاقة غير شرعية، انتحال صفة، والإضرار الجسيم بالضحايا وأسرهم، فضلًا عن تهديد الأمن المجتمعي.
طالبت النيابة بتطبيق حد الحرابة لثلاثة متهمين، إلا أن المحكمة أصدرت حكم القتل تعزيرًا بحق مريم المتعب ومنصور عبدالله، بينما صدرت بحق الآخرين أحكام بالسجن بلغ مجموعها 28 عامًا. وقد تم تأييد الحكم من قبل محكمتي الاستئناف والعليا، ليصبح الحكم باتًا ونافذًا.
الضحايا: حياة مسروقة وهوية ضائعة
عاش الأطفال الثلاثة، موسى الخنيزي، يوسف العماري، ونايف القرادي، حياتهم في كنف الخاطفة، تحت أسماء مزيفة، وبدون هوية أو تعليم. لم يعرفوا عائلاتهم الحقيقية، وعاشوا في كذبة استمرت لأكثر من عقدين، إلى أن اكتشفوا الحقيقة، فتبددت الصورة التي عاشوا عليها، وظهرت الجراح النفسية العميقة.
أما العائلات البيولوجية، فقد عانت من سنوات طويلة من الفقد، والانتظار، والبحث الذي لم يثمر إلا بعد عقود، عندما تحوّل الأمل الخافت إلى صدمة حقيقية أعادت فتح جراح غائرة.
رواية الخاطفة: الإنكار حتى النهاية
رغم الحكم القضائي والإدانة الكاملة، ظلت مريم المتعب متمسكة ببراءتها. ادعت في تصريحات من السجن أنها “وجدت الأطفال ولم تخطفهم”، وأنها “أحسنت تربيتهم”، مبررة عدم استخراج أوراق لهم بـ”الخوف والفقر”. إلا أن شهادة عائلتها، وخاصة شقيقها، خالفت هذه الرواية، ووصفتها بأنها كانت تعاني من سلوكيات غريبة منذ الصغر، ولها سوابق في التلاعب والكذب.
تأثير مجتمعي عميق وقضية رأي عام
تحوّلت قضية “خاطفة الدمام” إلى قضية رأي عام، وامتدت أصداؤها إلى الأعمال الدرامية، مثل مسلسل “عيال نوف”، الذي يُعتقد أنه استلهم أحداثه من هذه القضية. كما فتحت القضية نقاشًا واسعًا حول آليات التبليغ، الرقابة في المنشآت الصحية، وحماية النسب والهوية.
خاتمة: العدالة تُنجز.. بعد عقدين من الظلال
على الرغم من طول المدة بين وقوع الجرائم وتحقيق العدالة، إلا أن ما تحقق في نهاية المطاف يُعد انتصارًا للضحايا، لأسرهم، وللمجتمع ككل. لقد أكدت هذه القضية أن جرائم من هذا النوع، مهما طال بها الزمن وتوارى مرتكبوها، لا تسقط من ذاكرة العدالة.
وقد جاء تنفيذ حكم القتل تعزيرًا ليغلق هذا الملف المؤلم، وليكون رسالة واضحة بأن المجتمع لا يتهاون مع من يعبث بأمنه، وهويته، ومقدرات أفراده.