الموجز الاخباري لصحيفة وقع الحدث تابعنا من هنا

كتاب الرأي

فيض التضرّع حين يضيق الأفق.

بقلم: ناصر مضحي الحربي

في أوقات الضيق التي تتكاثف فيها الغيوم على روح الإنسان، لا يجد القلب ملاذًا أصدق من مناجاة الخالق. هناك، في مساحة الصمت بين الدعاء والدمع، ينكشف ضعف الإنسان على حقيقته، ويعود إلى أصله الأول؛ مخلوقٌ يتنفس الأمل من رحم الألم، ويستمد الصبر من يقينه بأن الله هو الحكيم، العليم، الرحيم.
إنّ التضرّع ليس فعل عجز، بل هو اعتراف سامٍ بقدرة الله المطلقة، وتعبير عن إيمانٍ يتجدّد كلما خذلتنا الحيلة وضاقت بنا الدنيا. حين يتوجه الإنسان إلى ربه شاكيًا همَّه أو مستغيثًا بشفائه وشفاء من يحب، فإنه في جوهر الأمر يعلن إيمانه العميق بأن الشفاء لا يأتي إلا من الله، وأن الأقدار لا تُغيّرها سوى إرادته.
وفي تلك اللحظات الصافية، تنكشف طبقات القلب الخفية؛ يتطهّر اللسان من الشكوى للناس، ويتعلّم الصبر الجميل، وتغدو المناجاة نوعًا من الطمأنينة التي تُعيد ترتيب الروح. ما أصدق الإنسان حين يناجي ربّه بصدق! فهو في تلك اللحظة لا يتجمّل بالكلمات، بل يخلع عن نفسه كل زخارفها، ليقف كما خُلق أول مرة: ضعيفًا، محتاجًا، لكنه عامر بالإيمان.
وحين يمتد الدعاء إلى الآخرين — إلى الأم، إلى الأحبة، إلى الوطن وأهله — يصبح التضرّع فعل محبة، لا مجرد طلب نجاة. فالدعاء للآخرين هو ذروة الإنسانية فينا، وهو ما يجعلنا نرتقي من أنانية الحاجة إلى سموّ الرحمة.
ثم تأتي اللحظة الأصدق حين يُرفع الدعاء من أجل رفع الظلم، ووأد الفتن، وكفّ أذى من أساءوا استعمال السلطة أو خانوا الأمانة. فالمؤمن لا يكتفي بطلب الرحمة لجسده، بل يسألها لمجتمعه، لوطنه، لعالمٍ أنهكته الفوضى.
إن في التضرّع عودةً إلى الفطرة، وشفاءً يتجاوز الجسد إلى الروح. فمن يدرك أن بيده لا شيء، يعلم يقينًا أن بيد الله كل شيء. وهنا يكمن سر السكينة التي لا تُشترى، وإنما تُوهب لمن أخلص الدعاء وصدق الالتجاء.
هكذا تتجلّى العلاقة بين الإنسان وربه: حوارٌ صامت، لكنه أبلغ من كل الكلام. وفيه يدرك القلب أن ضعف الإنسان ليس نهاية القوة، بل بدايتها الحقيقية، لأن من لجأ إلى الله، وجد.

  • – من زوايا “مضامين”، حديثٌ في عمق الإنسان والحياة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى