ميدان الحدث

الفجوة الثقافية بين الأجيال تُهدد وعي المجتمع

.بين ماضٍ مثقف وحاضر مستهلك: تحقيق في أزمة الجيل الرقمي
. استطلاع صادم: 6 من كل 10 شباب لم يقرؤوا كتابًا خلال عام

 

 

استطلاع رأي- من اعداد وتقديم / ناصرمضحي الحربي
خاص لصحيفة وقع الحدث

قد يبدو الحديث عن التفاوت الثقافي والمعرفي بين جيلين وكأنه نقاش مكرور، ولكن الواقع يُصرّ على أن يصفعنا يوميًا بهذه الفجوة حتى صارت حفرةً لا يُمكن تجاهلها. إننا لا نتحدث عن اختلاف طبيعي في الاهتمامات أو تطوّر في أساليب التفكير، بل نحن بصدد قطيعة معرفية وثقافية تهدد ذاكرة الأمة، وتعيد صياغة الإنسان المعاصر على هيئة مُستهلك لا يقرأ، ومستقبل لا يُنتج، ووعي هشّ هشيمًا تذروه شاشات الهواتف المحمولة.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، وتصبح فيه المعرفة أقرب من أي وقت مضى، يظهر أمامنا مشهدٌ مفزع: جيلٌ يتشبث بالورق والحبر والقراءة النقدية، وجيلٌ آخر يُغرقه طوفان الشاشات والمحتوى السريع. الفجوة الثقافية بين الجيلين لم تعد مجرد فرق طبيعي في الاهتمامات أو الوسائل، بل أصبحت أزمة هوية وتشكيل وعي، تُنذر بخطر اجتماعي طويل الأمد.
فهل نحن أمام جيل تخلّى عن المعرفة؟ أم أننا ببساطة لم نحسن تقديمها له؟ وكيف يُمكن ردم هذه الفجوة قبل أن تتحوّل إلى انقطاع كامل بين الماضي والمستقبل؟
وهناء لا يمكن أن نوجّه إصبع الاتهام نحو جهة واحدة. الأهل، والمؤسسات التعليمية، والإعلام، وحتى المثقفون أنفسهم، كلّهم شركاء في صناعة هذا التفاوت المرعب. نحن لم نواكب العصر، ولم نحسن التوجيه، وتركنا أبناءنا في مهب الريح الرقمية، دون حُصانة فكرية، ولا مرجعية معرفية.
المدرسة تحوّلت إلى معمل للدرجات لا للوعي. الأسرة استبدلت الكتاب بالأجهزة، والمجتمع بات يمجّد من يملك المال ولو كان لا يفرّق بين المتنبي وسائق التوكتوك! حتى المثقفون انشغلوا بالخطب والتذمّر بدلًا من أن يقدموا خطابًا جديدًا يتجاوز التحسّر ويصل إلى العقول.

الجيل القديم: المعرفة كانت شغفًا
جيل ما قبل الإنترنت — جيل كان يسافر بين صفحات الكتب كما يسافر المحبّ بين دفاتر العشق. كان وقت الفراغ يُملأ بالحوار، بالقراءة، بالجدل المعرفي، وحتى الخلاف كان له رقي. المكتبة المنزلية كانت من معايير الوعي، وكان من المعيب أن تعيش عمرك ولا تقرأ لطه حسين، أو العقاد، أو نجيب محفوظ، أو درويش.
ذلك الجيل، رغم فقر التقنية، كان غنيًّا بالتحصيل، يشتري كتابًا قبل أن يشتري ثيابًا. يطربه صوت فيروز صباحًا، ويدور في رأسه تساؤل فلسفي يرافقه حتى المساء. لم يكن يملك “جوجل”، لكنه كان يملك روح البحث، ولم يكن بحاجة لـ”يوتيوب” ليُعلِّمه، بل كان يذهب لشيخ أو أستاذ أو مكتبة عامة، ويفتش بنفسه حتى يجد الإجابة، فيكبر عقله ويترسّخ فيه المعنى.

الجيل الجديد: المعرفة كمعلّب فاسد
أما جيل اليوم، فالمعرفة بالنسبة له أشبه بوجبة “فاست فود” — سريعة، بلا طعم حقيقي، مشبعة مؤقتًا، وتؤدي إلى تخمة ذهنية لا قيمة لها. جيل لا يقرأ، بل يمرّ بعينيه فوق النصوص كما تمر الريح فوق سطح ماء راكد. تقوده الترندات، ويتبنى أفكارًا يجهل أصلها ومآلها، ويجادل بقشور دون جذور.

هل الثقافة اليوم ضرورة أم ترف؟
ربما هذا هو السؤال الأخطر في هذه المرحلة: هل لا تزال الثقافة أولوية؟ للأسف، يبدو أنها تحوّلت إلى خيار نخبوي، بعد أن كانت عنوانًا للرقي. كثيرون باتوا يروْن أن المثقف “لا يأكل من حبره”، وأن الزمن زمن المهارات السريعة لا الكتب العتيقة. هذه العقلية الاستهلاكية هي التي زرعت في الجيل الجديد احتقار المعرفة، وتقديس المظاهر.
نحن نعيش في مفارقة صارخة: كل شيء متاح، وكل شيء قابل للتعلّم، ومع ذلك هناك تراجع خطير في الوعي، وانهيار في العمق، وسطوة للسطحية كأنها قدر لا مهرب منه.

من المسؤول عن هذه الفجوة؟
هنا ندخل إلى المربع الأحمر: المسؤولية. هل نُلقيها على الجيل الجديد، الذي وجد نفسه في زمن الانفجار الرقمي، بلا دليل ولا موجه؟ أم على الجيل القديم، الذي خاف على تراثه أكثر من حرصه على تسليمه؟ أم على المؤسسات التعليمية التي تحوّلت إلى مصنع للدرجات، لا للعقول؟
الحق أن المسؤولية مشتركة، لكنها لا تبرر الواقع المرير. لقد فشلنا في بناء جسور حقيقية بين جيل يعرف قيمة الكتاب، وجيل يعتبره كائنًا منقرضًا. لم نواكب التقنية كما يجب، ولم نزرع حبّ المعرفة في قلوب أولادنا كما كان يجب. بل إن بعض أرباب الأسر يفتخر بأن أبناءه لا يقرأون لأنهم “مهتمون بريادة الأعمال”! وكأن الثقافة خصم للنجاح.

بين الكتاب والهاتف: جيلان لا يتكلمان اللغة نفسها
تقول الأستاذة نجلاء الحسني، خبيرة المناهج التعليمية:“الجيل السابق تربّى على الصبر المعرفي، والربط المنطقي، والقراءة التحليلية. كانت القراءة لديهم سلوكًا يوميًا، وكانوا يعتبرون الثقافة جزءًا من تكوين الشخصية. أما الجيل الجديد، فنشأ في بيئة سريعة، لا تسمح له بالتعمق، وتُغريه المعلومة المختصرة على حساب الجوهر.”
وتُضيف:“نحن كمؤسسات تعليمية لم نواكب هذا التحوّل كما يجب. تركنا الوسائل تتطور دون أن نطوّر الخطاب التربوي. كانت النتيجة: جيلٌ يملك الأدوات، لكنه يفتقد البوصلة.”

مقارنة مؤلمة… ولكن ضرورية
جيل اليوم، وإن كان الأكثر وصولًا للمعلومة، إلا أنه يُعتبر –بحسب معظم الخبراء– الأقل إنتاجًا للفكر. د. خالد القيسي، أستاذ علم الاجتماع الثقافي، يُشير إلى أن “الجيل الجديد لا ينقصه الذكاء، بل العمق. هو ضحية لمنظومة تربوية وإعلامية اختزلت الثقافة في صورة نمطية مملة، في حين قدّمت الترفيه السطحي بعباءة جاذبة ومغرية.”
ويتابع: “وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تعميق هذه الفجوة. فبينما كان الجيل السابق يُناقش القضايا الكبرى، أصبح الجيل الجديد يركض خلف التفاهة بحجّة ’الترند‘.”ورغم كل الوفرة المعرفية، لا تزال نسبة القراءة الورقية –والأهم: القراءة العميقة– تتراجع بشكل مقلق. ولا يعود ذلك فقط لعوامل الوقت أو الانشغال، بل أيضًا لتحوّل المجتمع نفسه من مجتمع منتج للأفكار إلى مستهلك لها، دون تمحيص أو وعي.

هل من أمل في الأفق؟
رغم كل ذلك، يرى بعض التربويين أن الأمل لا يزال ممكنًا. يقول المدرب التربوي فهد العتيبي: “هناك فئة من الشباب بدأت تعيد الاعتبار للثقافة، وتستخدم التقنية بشكل إيجابي. يتابعون بودكاستات فكرية، ويشتركون في منصات قراءة، ويناقشون كتبًا رقمية بوعي. هذه الفئة تستحق الدعم، فهي تمثل نواة مقاومة التفاهة.”
ويؤكد أن “المطلوب اليوم ليس إعادة الجيل الجديد إلى الورق، بل تقديم الثقافة بلغة العصر، دون أن نخسر جوهرها.”

أراء الشباب يكشف عن نظرة الجيل الجديد للثقافة
ضمن هذا الملف، أجرينا استطلاعًا سريعًا شمل 100 شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 16 و28 عامًا، من مختلف الخلفيات التعليمية والمناطق، وطرحنا عليهم ثلاثة أسئلة مباشرة:
1. كم كتابًا قرأتَ خلال السنة الماضية؟
2. هل ترى أن الثقافة ضرورية لحياتك العملية والاجتماعية؟
3. ما هو المصدر الرئيسي لمعلوماتك اليومية؟

النتائج… صادمة ولكن متوقعة:
58% من المشاركين لم يقروا أي كتاب غير مدرسي أو جامعي خلال العام.
21% قرأوا ما بين كتاب واحد إلى ثلاثة كتب فقط.
7% فقط قرأوا أكثر من خمسة كتب خلال السنة، وغالبيتهم يفضلون الكتب الرقمية.
وعند سؤالهم عن أهمية الثقافة:
40% قالوا إن الثقافة “مهمة لكنها غير ضرورية للنجاح في الحياة حالياً”.
35% اعتبروها “زينة معرفية” يمكن الاستغناء عنها.
25% فقط عبّروا عن قناعة بأن الثقافة ركيزة أساسية لبناء الشخصية والنجاح.

أما عن مصادر المعلومات اليومية:
63% يعتمدون على مقاطع الفيديو القصيرة (تيك توك، ريلز، يوتيوب شورتس).
19% يتابعون حسابات مؤثرين أو بودك ستات ثقافية عبر منصات التواصل.
12% يحصلون على المعلومات من مقالات إلكترونية أو صحف رقمية.
6% فقط يعتمدون على الكتب أو المراجع الأكاديمية.

تحليل نتائج الاستطلاع:
تشير هذه الأرقام إلى أن المشكلة لم تعد في انعدام الثقافة تمامًا، بل في تحوّل مكانتها داخل وعي الشباب. هناك عزوف ملحوظ عن المصادر العميقة، يقابله اعتماد كبير على الوجبات المعرفية السريعة. كما أن الخلط بين “المعرفة” والشهرة الرقمية” بات سمة واضحة في هذا الجيل، ما يطرح تحديًا حقيقيًا أمام المؤسسات التربوية والثقافية
ولهذا التفاوت بين الجيلين ليس مجرد قضية ثقافية، بل هو قضية وجودية. حين لا نستثمر خبرة جيل الأمس، ولا نوجه طاقة جيل اليوم، فإننا نعيش على حافة زمن لا ملامح له. لا نطلب أن يعود الشباب إلى الورق فقط، ولا أن يُقلّدوا السابقين، بل أن يستمروا أدواتهم بوعي، وأن يدركوا أن الثقافة ليست ترفًا، بل سلاحًا في زمن التلاعب بالعقول.
الفرق بين أمة تنهض وأمة تتآكل يبدأ من هذا السؤال: هل نريد أجيالًا تعرف… أم فقط أجيالًا تستهلك؟

شهادات حيّة من الميدان:
سلمى، 19 عامًا (طالبة جامعية):“أحب أتابع محتوى تعليمي على إنستغرام أو تيك توك، بس ما عندي صبر للقراءة الطويلة. أحس المعلومات لازم توصلني بسرعة، عشان أقدر أستوعبها.”

حسن، 24 عامًا (خريج إعلام):“أنا أقرأ كتب، لكن إلكترونية فقط. ما عندي وقت للورقي، والواقع يقول إن الثقافة مطلوبة لو كنت ناوي تتميّز. بس أغلب الشباب حولي يضحكون إذا شافوك تقرأ.”
ليان، 17 سنة (ثانوية):“الثقافة؟ مو أولوية بصراحة. اللي يمشي اليوم هو المهارات والتسويق الشخصي. الكتاب ما راح يضمن لك وظيفة، لكن ممكن مقابلة شخصية ذكية تعمل فرق.”

خلاصة ملفة الاستطلاع:
إن الفجوة الثقافية بين الجيلين ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل مؤشر على عمق التحوّل الذي أصاب الوعي الجمعي. وبينما نمضي بثقة نحو مستقبل رقمي، علينا أن نتأكد أننا لا نترك خلفنا جيلًا بلا ذاكرة، ولا نُرسِل القادم بلا بوصلة.
في زمنٍ تتراكم فيه الأدوات، تصبح المعرفة مسؤولية مشتركة: من الأسرة، إلى المدرسة، إلى المجتمع. فالثقافة ليست رفاهية، بل هي حبل النجاة الأخير في عالم يتغير أسرع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى