الموجز الاخباري لصحيفة وقع الحدث تابعنا من هنا

كتاب الرأي

في رحاب النسك.. وقفات على طريق الطهر

✍️ ناصرمضحي الحربي :

ها هو الركب يسير إلى مكة، وتحمل القلوب في طياتها شوقًا لا يُضاهى، وتلهج الألسن بنية الطاعة والامتثال، وتشتد الخطى نحو الميقات، حيث اللحظة الفاصلة بين دنيا العادة ومحراب العبادة. في هذا المقام، تقف ثلاث نسك عظيمة، تمثل بوابات الدخول إلى شعائر الحج: الإفراد، والقران، والتمتع، ولكل منها مسلكه وطريقه، لكن يجمعها كلها روح واحدة، هي روح الخضوع لله في أقدس بقاع الأرض.

الإفراد، وهو أن يأتي الحاج بقلبه معلقًا بالحج وحده، محرمًا من الميقات، قاصدًا عرفات، صابرًا حتى يرمي جمرة العقبة، ثم يحلق رأسه، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة، إن لم يكن قد سعى من قبل.
وأما القران، فهو الجمع بين العمرة والحج في نية واحدة، فيحرم بهما معًا من الميقات، ويسير في شعائر الحج كما يسير المفرد، غير أن عليه الهدي.
ثم التمتع، وهو الأنسب لمن جاء زائرًا، متفرغًا من النسك الأول إلى النسك الثاني، إذ يعتمر أولًا ثم يتحلل، ويعود إلى حال الحل، حتى إذا أتى يوم التروية، أحرم بالحج من مكانه. هذا النسك هو الأفضل والأحب، ومن كان مفردًا أو قارِنًا ولم يسق الهدي، فالأولى أن يتحول إلى متمتع، تماشيًا مع سنة نبي الهدى.

ويأتي يوم التروية، الثامن من ذي الحجة، ليعيد في القلب ذكرى أول خطوٍ إلى منى، ففي هذا اليوم يُستحب للحاج أن يحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، سواء أكان في مكة أم خارجها. وقد سار على هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل أنهم طافوا بالبيت عند إحرامهم، بل أهلّوا من أماكنهم، كما أفاد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

فيصعد الحاج إلى منى، قبل الزوال إن تيسّر، ويصلي فيها خمس صلوات حتى فجر التاسع، يوم عرفة العظيم. وهذا المبيت سنة مؤكدة، لا واجب، لكن فيها من الأجر والتأسي ما فيها، وفيها استعداد واستبشار للغد الموعود.

عرفة، يوم تتنزل فيه الرحمات، وتُرفع فيه الحجب بين العبد وربه، وتُفتح فيه أبواب المغفرة. منذ طلوع الشمس يسير الحجيج إلى هذا الموضع المهيب، ومَن وقف بعرفة لحظة من الليل أو طول النهار، فقد أدرك الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الحج عرفة”.

وهنا، لا مكان للمظاهر، ولا حاجة للتسلق على جبل الرحمة، ولا لاتخاذ صور الذكرى، فالمقام مقام خضوع، والقلوب هي التي تصعد، والدموع هي التي تسيل، والأنفاس هي التي تنادي: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”.

فإذا زالت الشمس، صلى الناس الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم انقطعت الدنيا، وتجلّت الآخرة. يبسط الحاج كفيه إلى السماء، ويغيب في بحر الدعاء، يطلب من الله عتقًا، ومغفرة، وهداية، ويُستحب أن يستقبل القبلة لا الجبل، فهو بيت الله وحده مقصد الدعاء.

ولا ينصرف الحاج قبل الغروب، فإن فعل، فعليه دم. وإن تأخر حتى الليل، ولو للحظة، أجزأه، رحمةً من الله بعباده. ثم إذا غربت الشمس، تحركت القلوب والأقدام إلى مزدلفة، في رحلة جديدة من التسليم واليقين.

ما أجمل هذه المشاهد حين تُروى بروح المحبة والامتثال، وما أعظم هذا الركن الذي يجمع بين شدة الجسد وصفاء القلب، بين العرق المنهال والدمع السخين، بين التلبية والصلاة، والدعاء والسكينة.

والله ولي التوفيق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى