شخصية في المجتمع

 روايات من روائع التاريخ الإسلامي

الروايات التاريخية المهتمة بسرد حكايات حكام العرب المسلمين القدامى وإقبالهم على أداء فريضة الحج ، تجاوزت مجرد نقل تفاصيل أداء هذه الفريضة إلى نقل الإطار التاريخي العام لفترة حكم كل خليفة أو ملك على حدة، ونقلت بذلك الأحداث السياسية وتفاصيل رحلات الحج بمسالكها وطرقها القديمة وتعلق العامة بها وما كانوا يبذلونه من جهد مضن في السفر على مدى أيام وسط غياب وسائل النقل والطرقات الحديثة.

ويقول مؤرخون إن الخلفاء الراشدين، أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، كانوا أكثر الخلفاء مواظبة على أداء فريضة الحج، وعندما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة لم يفعل فعلهم بسبب اشتعال الفتنة وانشغاله بالحروب، لكنه أناب عنه مَنْ يحج بالناس مثل القيم بن عباس عامله على مكة، وفي سنة أخرى أناب عنه واليه على اليمن، من هنا كانت بداية إمارة أو ولاية الحج، فوالي الحج أو أمير الحج شخص له حيثية يختاره الخليفة أو الحاكم ليحج بالناس ويرعى شؤونهم*.

وحين آلت الخلافة إلى العباسيين عام 132هـ، كان عبدالله السفاح أول خلفائهم لم يحج لانشغاله بتوطيد أركان دولته الناشئة، لكنه أمر بضرب النار من الكوفة إلى مكة فاسترشد به السائرون.

وفي عام 160هـ حج الخليفة المهدي وصحبه ابنه هارون وبعض أهل بيته، ولما علم من حجته بأن الكعبة قد تتهدم لكثرة ما عليها من ثياب وأستار، أمر بتجريدها وألبسها كسوة جديدة وطلى جدران البيت، ووسّع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي تلك الحجة أنفق مالا كثيرا قدّره المؤرخون وقتها بثلاثين ألفا وخمسمئة ألف دينار، أي حوالي 30.5 مليون دينار عدا الثياب الكثيرة*.

وكان المهدي أول خليفة حُمل له الثلج وهو في مكة، وأثناء إقامته تزوج من رقية بنت عمرو العثمانية، وبعد أربع سنوات توجه من الكوفة للحج حتى إذا وصل إلى العقبة أصابته حمى، فعاد ولم يحج في هذه المرة ولا بعدها، ومن مآثره أنه أمر عام 161هـ ببناء القصور في طريق مكة الأمر الذي زاد في عمرانها، وكان أول من أمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، مستخدما في ذلك البغال والإبل عام 166هـ.

أما هارون الرشيد فقد كان كثير الحج حتى قال فيه داوود بن رزين “أكثر ما يعني به الغزو والحج” وكان إذا قصد الحج حج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمئة رجل بالنفقة السابقة والكسوة الباهرة”، على ما جاء في تاريخ الطبري*.

وفي شهر رمضان من عام 178هـ اعتمر الرشيد ثم أقام بالمدينة إلى وقت الحج، وحج بالناس ومشى من مكة إلى منى على قدميه ثم إلى عرفة، وشاهد المشاهد كلها ماشيا، وكان كثير المنح، فعندما حج عام 186هـ أخرج معه ابنيه الأمين والمأمون، وبدأ بالمدينة فتقدم إليه أهلها فأعطاهم عطاء، ثم قدموا إلى الأمين فأعطاهم عطاء، ثم إلى المأمون فأعطاهم عطاء، ثم توجه إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ ذلك أكثر من مليون دينار، وفي تلك الحجة عقد لابنيه الأمين والمأمون ولاية العهد وعلقها في الكعبة.

وفي عهد الرشيد حجت زوجته زبيدة عدة مرات أنفقت خلالها أموالا طائلة، فحضرت عين المشاش وأوصلت مياهها إلى الحرم وأمرت بحفر برك وآبار كثيرة في طريق مكة لتتزود منها قوافل الحج بالماء، منها: برك العنابة، وأم جعفر، والقنيعة، والزبيدية، وكانت بجوار بعض البرك قصور وقباب، ولما قدّم لها وكيلها كشفا بحساب النفقات قالت له ثواب الله بغير حساب، وقد أمر الخليفة المأمون بتجديد كسوة الكعبة كل عام، وكان يقدم لها كساء من قماش فاخر أسود اللون*.

الدولة العبيدية (الفاطمية) تجنّبوا الحج حتى لا يحتكوا بالعباسيين، و انشغل الأيوبيون بالحروب الصليبية، ثم تولى أمر مصر المماليك الذين ظهر في عهدهم “المحمل”.

ويذكر مؤرخون أن أول مَنْ استخدم المحمل لحمل الكسوة هي شجر الدر زوجة السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وذلك أنها أرادت الحج عام 640هـ فصنعوا لها هودجا مربعا عليه قبة لحملها، ومشى هودجها وقافلة الحج تتبعه فسُمّي بالمحمل، وصار إرسال الكسوة فيه عادة جارية منذ ذلك الحين، وإذا كان الإعداد للمحمل في البدايات بسيطا فقد صار بعد ذلك شغلا شاغلا، إذ تُقام له الاحتفالات وهو يطوف شوارع القاهرة وتصحبه المسيرات وحوله الزينة والرايات، وأمامه الرماحة بالملابس الحمراء يلعبون بالرماح. وتحف به الفرسان وأعيان الدولة وخلفه العوالم يرقصون ويغنون، وكان السلطان يشهد كل هذا وكأنه عيد ديني أو رسمي.

كان الحجاج من شمال أفريقيا ومصر يسلكون الطريق البري إلى الحجاز عبر سيناء والعقبة، فلما نشبت الحروب الصليبية سلكوا طريق النيل حتى قوص ومنها إلى عيذاب والقصير على البحر الأحمر، حيث يستقلون مراكب إلى جدة، فلما تولى السلطان بيبرس السلطة في مصر وكسرت شوكة الصليبيين عاد الحجاج إلى الطريق البري عبر سيناء مرة أخرى. وقد حج السلطان بيبرس وساهم في غسل الكعبة مع الحجيج، وأجرى على أهل الحرمين وأهل بدر ما كان قد انقطع في أيام غيره من الملوك وتمّت عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم و منبره، وجعل بالضريح النبوي درابيزين سقوفه ذهب، على حد قول الأتابكي ابن تغري بردي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى