الموجز الاخباري لصحيفة وقع الحدث تابعنا من هنا

كتاب الرأي

جبل الرحمة… حين تعانق الأرواح السماء

✍️ ناصرمضحي الحربي :

في صباحٍ مشبعٍ بالسكينة ومضمّخٍ بنفحات الرحمة، تستيقظ الأرض على مشهد مهيب عند جبل الرحمة في عرفات، حيث تتوافد جموع الحجيج من شتّى بقاع الأرض، قلوبهم معلّقة بالسماء، وعيونهم دامعة بخشوع، وأيديهم مرفوعة بدعاء يفيض رجاءً ومحبّة. هنا، في هذا الموضع الطاهر، تتجلّى أعظم لحظات الصفاء الإنساني، وتذوب الفروق، وتتوحد الأرواح بنداءٍ واحد: لبيك اللهم لبيك.

جبل الرحمة، ذاك الشاهد الصامت على أعظم مشاهد التاريخ الإسلامي، يقف شامخًا في قلب مشعر عرفات، حارسًا لذاكرة الزمان، حيث وقف عليه النبي محمد ﷺ في حجة الوداع، يخاطب الأمة بخطبة هي دستور الإنسانية ومصدر هداها. وعلى صخراته التي لامست خطى النبوة، لا يزال الحجيج يصعدون في خشوع، كأنهم يصعدون إلى رحمات السماء، متجردين من زخرف الدنيا، متلفعين بثوب الإحرام والنقاء.

وعلى الرغم من حرارة الطقس وثقل الخطى، فإن الأرواح هنا أخف من النسيم، كأنما يد الله تحتضنهم برفق، يحدوهم وعد النبي ﷺ بأن: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة”، فيحلق الدعاء في الفضاء كأجنحة نور، وتصعد الحناجر برجاء لا يُرد.

ولأن هذا المشهد الجليل يستحق رعاية تليق بقداسته، فقد أولت القيادة السعودية -أيدها الله- عناية بالغة بتوفير كل سبل الراحة لضيوف الرحمن، فانتشرت المظلات، وامتدت مراوح الرذاذ، وشُيّدت مشاريع تسهل السُبل وتلطف الأجواء، في مشهد يجسّد التلاحم بين الواجب الديني والبعد الإنساني.

ومع بزوغ الشمس، تتحول ساحة الجبل إلى لوحة إنسانية لا مثيل لها: أجناس مختلفة، لغات متعددة، ألوان متباينة، لكنها كلها تصبّ في نهر واحد من التضرع والانكسار بين يدي الخالق، في تكرار سنوي لمشهد لا يشبهه شيء، ولا يضاهيه مكان. إنه يوم الذروة الروحية، حيث يخطّ الحاج في قلبه تجربة لا تنسى، ويلتقط من هذا الجبل زادًا من الصفاء يمتد لما بقي من العمر.

هكذا يظل جبل الرحمة، لا كجبل من حجر، بل كجبل من نور… تعانقه الأرواح، وتتطهّر عنده القلوب، ويكتب عنده الحاج بداية جديدة، بين الأرض والسماء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى